من يقرأ اللوحة السياسية في الكيان الصهيوني يدرك تمام الإدراك حجم التناقضات والخلافات الكبيرة التي تعانيها حكومة الاحتلال. فقد شهدت تلك الحكومة المزيد من الخلافات البنيوية والظاهرية منذ بدأت قوات العدو الصهيوني حربها الإجرامية على قطاع غزة وأهله، وأصبح واضحاً منذ اليوم الأول أن هناك أكثر من رؤية صهيونية تجاه الأزمة الحادة، غير أنّ مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، بذل جهوداً مضنية لاحتواء هذه الخلافات وتلك التناقضات وإظهار تماسك فريقه داخل الحكومة.
نتنياهو يعلم منذ البداية أنّ انهيار حكومته اليمينية المتطرّفة يعني في الأساس نهايته السياسية، وبالتالي مواجهة مصير مؤجّل بفعل الحرب الدموية التي توهّم أنها ستنقذه منه، بل ستبيّض صحيفته داخل الكيان وخارجه، وتحوّله إلى بطل استطاع أن يثأر لما حلّ بالكيان الصهيوني بسبب عملية طوفان الأقصى المباركة، ويعمل على إنهاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، ومن ثم يملك تحديد مصير القطاع بعدها ويتحكّم به كيفما يشاء.
أما وقد طالت تلك الحرب المجنونة دون أن تحقق حتى الآن الأهداف التي رسمها مجرم الحرب نتنياهو، فإن اليأس بدأ يستبدُّ به وبحكومته التي لم تستطع كتمان خلافاتها وتناقضاتها طويلاً، فظهرت نيرانها وشظاياها للعلن بأكثر من صورة تعكس ارتباكاً وقلقاً في التعامل مع واقع الحرب وضبابية وعدم وضوح في تصوّرات ما بعدها، وتزايد تأثير العجز والشعور بالارتكاس والنكوص عن تحقيق أهم أهدافها بالنسبة لسكان الكيان ومنهم قطعان المستوطنين، وهو تحرير الأسرى الصهاينة لدى حركة حماس.
جميع من يتابع الشأن (الإسرائيلي) يدرك أنّ نتنياهو هو أكثر المأزومين الآن، فخسائره السياسية الكبيرة تتراكم وبشكلٍ متسارع، وظهر أثر تخبّطه وفقدانه للتوازن السياسي داخلياً بعد أن خسر بسببه خارجياً، حيث إن تذبذب وعدم اتزان علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، أو فشله الذريع في الزجّ بأطراف إقليمية في سيناريوهات وتصريحات ملفقة وخادعة ومليئة بالكذب، جعله طرفاً غير موثوق به على الصعيد الخارجي والداخلي، وكشف مسؤوليته بشكلٍ مباشر عن الظروف السياسية المعقّدة بالمنطقة والإصرار على جرّها إلى مزيد من التصعيد الذي لا تحمد عواقبه ولا أحد يعرف نتائجه.
إنّ ما قام ويقوم به نتنياهو في هذه المرحلة يحاول من خلاله الزعم أمام حكومته اليمينية المتطرّفة وغيرها، أنّ ترتيبات ما بعد الحرب في قطاع غزة محل اتفاق مع أطراف إقليمية ودولية، وذلك لإيهام مجتمع الكيان الصهيوني بأنّ نصره بات وشيكاً. غير أن ثبوت خداعه وكذبه أعجزه بشكلٍ فاضح عن السيطرة على الانقسامات والتناقضات في فريقه، وأصبح ما بات يُعرَف بـ(اليوم التالي)، أي مستقبل قطاع غزة الذي تصوّر نتنياهو أنه قادر على رسمه بأسرع ما يمكن، كابوساً لرئيس وزراء الكيان الغاصب، بل إنّ ما قبل هذا اليوم يربكه إرباكاً شديداً، فوقائع الحرب الساخنة تتبدّل وتتغيّر باستمرار، والجبهات التي اعتقد أنه أخمدها، تنفتح من جديد وتفرض خططاً عسكرية وأمنية جديدة لها كلفتها المادية والبشرية الهائلة.
تلك الخلافات والتناقضات الجديدة تضاف إلى سابقاتها التي ظهرت أكثر منذ عدّة أشهر في ملف الرهائن وتفاصيل صفقة استعادتهم وعودتهم إلى بيوتهم، وإصرار نتنياهو على الانفراد وحده بالقرار فيها دون غيره، وكذلك وضوح عدم امتلاكه رؤية متماسكة أو خطة مدروسة بإحكام بشأن الحرب في قطاع غزة.
لقد تابع المراقبون والخبراء الاستراتيجيون كيف أن بيني غانتس، رئيس هيئة الأركان العامة العشرين لجيش العدوان الصهيوني، وعضو حكومة الحرب الإسرائيلية، أحرج نتنياهو سياسياً قبل فترة وزار دون علمه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في تجلٍّ واضح للأزمة السياسية الداخلية الحادّة، غير أن غضب رئيس الحكومة انتهى ببذله مزيداً من الجهد لتوحيد الصفوف الداخلية على الأقل حتى نهاية الحرب التي يرى دوماً أنها قريبة، لكن رهاناته الخاسرة تخيب في كل مرة ويسقط في مستنقع الأوهام.
هذه المرة، يبدو أن الصراع الداخلي الحاد هو الحلقة التي ستضيق حول نتنياهو وتزيد قلقه وتوتره، وحكومته اليمينية المتطرّفة أمام ضغط داخلي محوره الحرب الدموية التي طالت بفشله الذريع استعادة الأسرى، وآخر خارجي مع تفاقم الغضب العالمي ممّا يقوم به من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في قطاع غزة.