الخطاب من حيث المبدأ هو كل قول ورسالة تحمل محتوى يستهدف جماعة أو مجتمعاً أو حزباً لبيان محتوى ومضمون وربما مشروع لجهة تشكيل فهم أي وعي وموقف يستتبعه سلوك ينسجم مع مضمونه، وللخطاب أشكال متعدّدة من أكثرها حضوراً الخطاب الأيديولوجي لأنه خطاب مليء بالرموز والأهداف والمخيال، فهو خطاب حالم ورومانسي أكثر منه خطاباً عقلانياً لجهة أنه يقوم على دغدغة عواطف الناس والمهمّشين، ولاسيما الفقراء والمقهورين، وهو خطاب مديد وقابل للتعطيل تحت عنوان الظروف والمؤامرات والتحديات وغيرها من تبريرات، وغالباً ما يودي الخطاب الأيديولوجي بحكم تأثيره العاطفي بملايين الضحايا، فالخطاب النازي القومي جرّ وراءه الملايين وانتهى بدمار ألمانيا، وكذلك الخطاب الفاشي الإيطالي، إضافة إلى الخطابات المتطرّفة في أغلب الديانات.
وبالعودة إلى أشكال وأنواع الخطاب، يمكننا الإشارة إلى العديد منها، فكلام السياسي خطاب والكتاب والسينما والمنابر والصورة والشعر والرواية والقصة والإعلام والصحافة والتربية، كلها من أنواع الخطاب. وعموماً يتناول الخطاب ويستهدف متلقياً لإحداث سلوك إيجابي أو سلبي أي تغيير الوعي أو خلق وعي جديد، والخطاب ينتج وعياً وسلوكاً أي موقفاً وصورة، فعندما يقال إن فلاناً إرهابي وفلاناً شهيد وفلاناً وطني وفق رؤيته، تتشكّل صورة عن ذلك في وعي جمهور محدّد، وكذلك عند وصف شخص بأنه مجنون أو عميل أو العكس، وميشيل فوكو تحدّث عن دور الخطاب في تشكيل أو تغيير الصورة عن المجنون من أنه يجب الخلاص منه إلى أنه مريض تجب معالجته وأن الجنون هو عبقرية أو ذكاء غير طبيعي.
وكما أشرنا يعدّ الخطاب الأيديولوجي أكثر الخطابات خطورة، ولاسيما إذا عمل على إخفاء الحقيقة وسعى إلى تكريس اللاحق، وخاصة أنه يوجّه لجمهور يؤيّده ويعرف أنه زائف، ومع ذلك نجد أن جمهوره يتسق مع مقتضياته، لأنها تخدم مصالحهم أو مصالح مصدر الخطاب التي ربما لا تكون بالضرورة مصالحهم، فهم أنتجوا الخطاب الزائف وهم جمهوره، وهناك جمهور قد ينطلي عليه دون أن يكون في الأساس من جمهوره الذي أنتجه فيحصل لديه وعي زائف انطلاقاً من سلطة الخطاب أي تأثيره في الوسط الذي يستوطنه.
ولا شك أن الخطاب هو أداة لتسويق فكرة المؤامرة التي هي في جوهرها عمل مخطط مرسوم لإيقاع الأذى في الخصم أو الخصوم، وهنا يصبح الحديث عن مؤامرة نفياً لمسؤولية معينة عن أذى لحق بالمجتمع بسبب ممارسات خاطئة لسلطة ما وفّرت شروطاً لحدوث ما جرى، وعن طريق الحديث عن مؤامرة تتهرّب من تحمّل مسؤوليتها فيها أو تبرر سلوكاً قمعياً مؤذياً للمجتمع بحجة القضاء على المؤامرة، فيصبح الحديث عن المؤامرة محاولة لغطاء عن سلوك مشين قد يقتنع جمهور قليل الثقافة بهذا الخطاب، إضافة إلى الجمهور المنتج للخطاب، فيصبح لذلك الخطاب سلطة على هذا الجمهور المخدوع والمضلل.
والخطاب الأيديولوجي ينطلق من المصلحة، وهو بذلك يختلف ويتباين عن غيره من خطابات، ولاسيما الخطاب العلمي الذي ينطلق من الحقيقة، لذلك عندما ندقق في خطاب أي دولة علينا أن نعلم أنها في خطابها تنطلق من مصالحها أو على الأقل مصلحة الحكم فيها، لذلك علينا أن نبحث فيما وراء الخطاب لا شكله، وخاصة إذا كان الخطاب من دولة لا تربطنا بها رابطة وطنية أو قومية، فعندما تقدم سلطة ما خطاباً لا علاقة له بسلوكها فهو خطاب يجب ألا يملك سلطة الخطاب التي أشرنا إليها، فخطاب السلطة هو ذلك الذي ينتج موقفاً إيجابياً منه، فلا يمكن لسلطة أن تقدم خطاباً عن النزاهة وهي أس الفساد، فهنا لا يصبح لخطابها أي معنى، فهذا الخطاب لم يعُد له وظيفة ويفقد ما سمّيناه سلطة الخطاب أي تأثيره في المجتمع، أو خطاب يصدر عن تنظيم إرهابي متطرّف يتحدث عن الحرية والديمقراطية والتنوع وحق الاختلاف أو قوى معارضة مرتبطة بالخارج تتحدّث عن السيادة واحترام الإرادة الشعبية ودور المؤسسات الوطنية.
وللحدّ من سلطة الخطاب الكاذب والمخادع لا بدّ للمجتمع على وجه العموم من امتلاك عقل نقدي لقراءة أي خطاب ويتمكّن من تفحّصه وتبيان مدى صدقيته مقارنة بسلوك السلطة وأسلوبها في الحكم، وهنا يلعب الوعي السياسي والمجتمعي والنخب المثقفة دوراً أساسياً في تشكيل مثل تلك الثقافة الواعية التي تحول دون تمرير أي خطاب كاذب ومخادع ومضلل للجمهور، فنقد الخطاب جزء من قدرتي على التحرّر من سلطته، وكل خطاب فيه مساحة واسعة من الأمل هو خطاب مؤثر في الناس لأن الأيديولوجيا هي جملة وعود بتحقيق أهداف تدغدغ مشاعر الجماهير من قبيل الوحدة والحياة الكريمة والحرية والعدالة وغيرها من عناوين جذابة للجمهور، ولا سيما أنها تصدر من سلطة صاحبة قرار، فتترك أثراً نفسياً على الناس أي أن الخطاب مارس سلطته وتأثيره إلى درجة أن البعض يموت في سبيل تحقيق أهداف الخطاب، كالخطاب الشيوعي والثوري في الستينيات الذي يدعو للتخلص والتحرر من الاستغلال والإمبريالية، أو الخطاب الإخواني والأصولي الذي يحرّك طاقة نائمة فجّرها بكل ما فيها من حقد وكراهية ليقضي على الآخر المختلف تلبية لمقتضى الخطاب رغم الفارق الأيديولوجي والإنساني بين الخطابين.
ويعدّ الإعلام بحكم استطالاته في العصر الحاضر الأداة الأساسية لترويج خطاب السلطة أية سلطة أو القوى النافذة في العالم، فنراها تحتكره حتى لا يطل الجمهور على غيره فيمارس عليه سلطته الوحيدة، ولكن مع تنوّع وسائل التواصل لم يعُد ممكناً احتكار الخطاب فأصبح النظر إلى القضايا من زوايا متعدّدة لجهة توفر فرص عديدة لتأمل أي خطاب، فلم يعُد المتلقي أسير رواية واحدة ما يمكّنه من وعي وإدراك زيفه وكذبه وخداعه أو صدقيّته وموضوعيته، آخذاً في الاعتبار أن الجمهور أي جمهور، وكذلك الرأي العام غالباً ما يكون منقسماً إلى أربعة أقسام، جمهور مع، وجمهور ضدّ، وأكثرية لا مع هذا ولا ذاك، وكتلة غير مبالية.
وإذا جاز لنا الحديث عن منتجي الخطاب فهم كثر، فالمثقف والمخرج والروائي والسياسي والإعلامي ورجل الدين ورجل الأعمال والصحافة كل وسائل التثقيف والتوعية والتربية بما فيها الجامعات والنخب بكل مستوياتها والأحزاب على وجه العموم، وإذا جاز لنا أن نتوقف عند شكل راقٍ من أشكال الخطاب فلا شك أنه الخطاب الفلسفي، فهو خطاب وإن كان نخبوياً فمن الأهمية بمكان تعويمه وترسيخه ونشره وتوطينه لأنه يرسّخ ثقافة نقدية تحول دون خداع الجمهور وتزييف وعيه، لذلك نرى الديكتاتوريات والأنظمة الرجعية والمتخلفة تسعى إلى تكريس الخطاب الغيبي والأسطوري والخرافي وتحارب الخطاب الفلسفي والنقدي بوصفه خطاباً يمكّن المتلقي من تأمله وتقليب أوجهه وصولاً إلى الحقيقة، فالخطاب المسطّح والمتهافت والثقافة الهابطة والفن الهابط هي أدوات خطاب الديكتاتوريات والتسلّط والأنظمة المتخلفة والمغرقة في رجعيتها.