| عامر نعيم الياس
نشرت دورية «فورن بوليسي» بتاريخ 24 كانون الثاني الجاري تقريراً جاء فيه نقلاً عن مصادر في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية إن «واشنطن لم تعد مهتمة بالبقاء في سورية»، وأضافت إن «واشنطن ترى أن وجودها في سورية لم يعد ضرورياً» مؤكدةً أن «مناقشات مكثفة تدور حالياً لبحث توقيت وكيفية سحب القوات الأميركية من شمال سورية».
من جهتها، نقلت شبكة «سي إن إن» الأميركية عن مصادر، وصفتها بالمطلعة إنه «من المتوقع أن تبدأ الولايات المتحدة والعراق قريباً محادثات حول مستقبل الوجود العسكري الأميركي في البلاد، وقد أصبحت المحادثات حول مستقبل الوجود العسكري الأميركي الآن أكثر إلحاحاً وسط عدم الاستقرار الإقليمي على نطاقٍ أوسع، ووسط الدعوات العلنية المتزايدة من الحكومة العراقية للولايات المتحدة لسحب قواتها من البلاد»، ولكن نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية قال: إن «القوات الأميركية باقية في العراق، ونحن نعمل هناك إلى جانب القوات العسكرية العراقية وبناءً على طلب الحكومة العراقية من أجل التأكد من الهزيمة النهائية لداعش».
وليست مجلة «فورين بوليسي» وحدها التي تحدثت عن نقاش في واشنطن حول الانسحاب من سورية والعراق، إذ إن صحيفة «المونيتور» الأميركية نشرت بدورها تقريراً جاء فيه إن «إدارة الرئيس جوزيف بايدن تناقش تغييراً في النهج تجاه سورية»، وحسبما جاء في التقرير «فقد أثيرت هذه المسألة في اجتماع عقده مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض هذا الشهر، بناءً على طلب من البنتاغون، الذي بحث مسألة ضرورة التقارب بين دمشق الرسمية و(ميليشيات) «قوات سورية الديمقراطية قسد»، وكان هناك اقتراح لإنشاء لجنةٍ سياسيةٍ مشتركة بين الإدارات للتشاور بشأن مصير «قوات سورية الديمقراطية» على المدى المتوسط والطويل، وفي الوقت الراهن، تجري المناقشات على مستوى الخبراء والمستشارين».
حسب هذه التقارير جرت مناقشة مصير الوجود العسكري الأميركي في سورية خلال اجتماع لـ«مجلس الأمن القومي» في البيت الأبيض في الثامن عشر من الشهر الحالي، وأتى ذلك بناءً على طلب وزارة الدفاع تشكيل «لجنة السياسات المشتركة بين الوكالات- IPC»، التي تضم ممثلين عن وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية لمناقشة جدوى الوجود الأميركي، وأفضل سبيل لإنهائه، وهو ما اعتبرته التسريبات «قريباً جداً».
لكن صحيفة «بوليتيكو» الأميركية نفت التقارير التي تحدثت عن انسحابٍ قريبٍ للقوات الأميركية من الشرق الأوسط، وخصوصاً من العراق وسورية، في ظل الهجمات التي تتعرض لها القواعد الأميركية في هذين البلدين، نافيةً ما جاء فيها.
تطرح التسريبات الإعلامية السابقة عن مصادر سياسية وعسكرية أميركية تساؤلاً حول جدية الانسحاب الأميركي من سورية، وحتى العراق، فهل هذه التسريبات هي في سياق سياسة الإدارة الأميركية الحالية التي تقوم على حمل العصا من المنتصف في العديد من الملفات الساخنة، حيث يسير التصعيد اللفظي إلى جانب الاحتواء، أم إنها تمتلك حظوظاً؟
في شهر كانون الأول من عام 2021، أفادت تسريباتٌ إعلامية أن الإدارة الأميركية اتفقت على أهدافٍ نهائية محددة لإدارة الملف السوري في المدى المنظور، وحسب التسريبات فإن «الأولويات الأميركية التي تحدّث عنها مسؤولون أميركيون في جلساتٍ مغلقة في واشنطن قبل أيام، تشمل: أولاً، البقاء في شمال شرقي سورية واستمرار هزيمة داعش. ثانياً، المساعدات الإنسانية عبر الحدود. ثالثاً، الحفاظ على وقف إطلاق النار. رابعاً، دعم المحاسبة وحقوق الإنسان والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. خامساً، دفع عملية السلام وفق القرار 2254. يضاف إلى ذلك حرص واشنطن على دعم الدول المجاورة لسورية واستقرارها»، وأضافت التسريبات: إن «التغيير المعلن في الأهداف الأميركية في سورية، على محدوديته هو نتيجة لتقدير (المسؤول في الإدارة الأميركية عن ملف سورية) بريت ماكغورك الذي لديه قناعة مختلفة تقوم على ضرورة أن تكون الأهداف الأميركية منسجمة مع أدواتها، وقدرتها على استخدام هذه الأدوات، ومدى استعداد موسكو للتعاطي مع هذه الضغوط. كما أن فريق بايدن حريص على عدم انهيار المفاوضات مع إيران لاستئناف العمل بالاتفاق النووي وعدم اتخاذ خطوات تصعيدية ضد إيران في سورية، باستثناء الردّ على استهداف أميركا ودعم غارات إسرائيل».
في ضوء ما سبق ما الذي تغيّر في الأهداف الأميركية في سورية ومحدّداتها؟
مما لا شك فيه، أن أمن الكيان الصهيوني يحتل الأولوية في صياغة سياسات الإدارة الأميركية في المنطقة وهو المحدّد الأول لها، وبالتالي هو على صلةٍ مباشرة بالوجود العسكري الأميركي في سورية والعراق، وهذا الوجود يؤمن مصالح إسرائيل ويضعف الدولتين، كما أنه يساهم بشكل مباشر في تسهيل الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على سورية، التي تكثفت بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول الماضي.
تأمين الوجود الأميركي في العراق هو المحدّد الثاني لهذه السياسات، والجبهتان السورية والعراقية مترابطتان إلى حدٍّ لا يمكن لأحد التمييز في رجحان إحدى الجبهتين على الأخرى، بمعنى هل الجبهة العراقية هي الأساسية وسورية العمق لها، أم إن الجبهتين تشكلان عمقاً لبعضهما بعضاً؟
أما المحدّد الثالث للاحتلال الأميركي في سورية على وجه الخصوص، هو انخفاض كلفة هذا الاحتلال وعدم وجود خسائر بشرية تؤثر في الناخب الأميركي وتدفع باتجاه تحرك الطبقة السياسية المناهضة للوجود العسكري الأميركي غير الشرعي في سورية.
عملية «طوفان الأقصى»، والحرب على غزة، أفرزتا تغييراً ملحوظاً في المحدّد الثالث الذي ساعد الجناح المؤيد للبقاء في سورية بواشنطن على الضغط على إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبعدها إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، من أجل البقاء في سورية، فالعملية التي جرت قبل أيام في منطقة التنف وإنكار الإدارة الأميركية لحصولها في سورية، والتي دفعت الرئيس بايدن للتوعد «بالرد»، حيث أدت إلى مقتل ثلاث جنود أميركيين وجرح 34 آخرين، والهجمات المتكررة من «المقاومة الإسلامية في العراق» على الوجود الأميركي في سورية والتي بلغت نحو 150 هجوماً منذ السابع من تشرين الأول الماضي، حرّكت هذا الملف ودفعت صانع القرار في واشنطن إلى وضع مسألة الوجود الأميركي في سورية والعراق على طاولة البحث، وطبيعي أن تناقش الإدارة الأميركية احتمالين لا ثالث لهما: إما الانسحاب، وإما تعزيز الوجود العسكري الأميركي في سورية.
الوجود الأميركي في العراق طرأ عليه هو الآخر تغيير ملحوظ، فالحكومة العراقية وضعت هذا الأمر على رأس قائمة أولوياتها، واللجان المختصة الأميركية العراقية بدأت بمناقشة هذا الأمر، الذي أثير منذ عامين، ومن ثم تراجع في ضوء التطورات في المنطقة وعلى رأسها عملية التطبيع الخليجية الإسرائيلية التي كانت أحد أهداف إدارة بايدن الرئيسية في المنطقة.
ومما لا شك فيه أن مناقشة الانسحاب الأميركي من العراق، على وجه الخصوص، ليس مسألة بهذه السهولة، بل إن الأمر يحتاج إلى سنوات، والأميركيون لا يمكن أن يخرجوا من العراق إلا في إطار اتفاقٍ شامل يضمن المصالح الأميركية في العراق، مصالح تتعلق ببنية الحكم العراقي وبنية مؤسسات الدولة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والجدول الزمني الذي من الممكن أن يمتد إلى ثلاث أو أربع سنوات، وهنا تحضر فرضية ربط الساحتين السورية والعراقية، فالانسحاب الأميركي من العراق حتماً يستوجب انسحاباً من سورية بشكلٍ تلقائي، لكن تعقيدات الوضع العراقي تلقي بظلالها على هذا الاحتمال، فضلاً عن التوازنات الداخلية العراقية وتركيبة الحكم هناك، وحجم المصالح الأميركية في العراق، والأثر الذي يمكن أن يتركه أي انسحابٍ الآن، غير منظّم، على صورة الإدارة الأميركية الحالية التي تحضّر للانتخابات الرئاسية.
إن تكرار صورة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، سواء في العراق أم سورية، من دون مناقشة شكل المنطقة والترتيبات في مرحلة ما بعد الانسحاب، عاملٌ مهمٌ في تحديد جدية طرح ملف الانسحاب الأميركي العسكري من المنطقة هذا أولاً. وثانياً، لا يمكن فصل العامل الإسرائيلي الحالي الذي بات أكثر إلحاحاً، وخاصةً من الناحية الأمنية، وأكثر ضغطاً على صانع القرار الأميركي.
العوامل السابقة، إضافة إلى التوتر الأميركي الإيراني المتصاعد، وتجميد المحادثات حول الملف النووي الإيراني، والخروقات التي أصابت سياسة الاحتواء الأميركي لإيران، والتصعيد العسكري في المنطقة، ومحاولة تغيير قواعد اللعبة، في ضوء الحرب على غزة، تضع كل الخيارات على الطاولة، بما فيها طرح ملف الانسحاب، لكن يبقى موضوعاً للنقاش في الوقت الحالي في سياق رصد السيناريوهات الممكنة لجميع الأطراف، خاصةً أن إنكار البنتاغون لعملية التنف وتركيزه على حصولها في الأراضي الأردنية، والتراجع الأردني عن الرواية الأولى للهجوم التي تكذب الرواية الأميركية، تؤكد تركيز المستوى العسكري الأميركي على عدم التشويش على الوجود العسكري الأميركي في سورية، وإبراز وجود تحوّلٍ في البيئة المحيطة بهذا الوجود تنقله من «الاحتلال الرخيص» إلى «الاحتلال المكلف».
كاتب سوري