لم يتوقَّف الكيان الصهيوني الغاصب يوماً عن ممارسة الاعتداءات والقمع ضدَّ الشعب العربي الفلسطيني، فكان يُمارس جميع الانتهاكات اللا إنسانية ضد النساء والشيوخ الأطفال، وينتهك الأماكن المقدسة والبيوت وأملاك الشعب الفلسطيني دون أيِّ رادعٍ، ولم يلتزم بأيّ اتفاق أو معاهدة دوليّة، حتى أنّ التحذيرات العربية والدولية من انفجارِ الأوضاع في الأراضي الفلسطينية أصبحت أمراً واقعاً، حيث إنّ الشعب العربي الفلسطيني لم يَعُد يحتمل تلك الانتهاكات المستمرّة.
استفاق العالم أمس على أخبار هجوم مباغِت شنّته الفصائل الفلسطينية المناضلة على المستوطنات الصهيونية التي تشكّل ما بات يُعرَف بــ(غلاف غزة)، في عمليةٍ لم يشهدها الكيان الصهيوني من قبل، الذي ردَّ بقصفٍ عنيف جداً استهدف قطاع غزة وخلّف مئات الضحايا على قتل وأسر عدد كبير من الضباط والجنود الصهاينة خلال ساعات معدودة، بينما تشهد الضفة الغربية حالة غليان كبير وغير معهود اختلطت فيه التظاهرات الفلسطينية بهجمات المستوطنين الوحشية العشوائية.
ما جرى هو تأكيد على استمرار دوّامة القلق وعدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة، والتي وصلت إلى حدّ الردّ العنيف الذي سيجرّ المنطقة لا محالة إلى حالةٍ من العنفِ تهدِّد بجرّ المنطقة برمّتها إلى عدم الاستقرار مجدّداً، وهي نتيجةٌ حتمية لتجاهل القرارات والقوانين الشرعية الدولية ونداءات السلام من جميع دول العالم الحر، وتأتي تلك الدوامة في سياق التصعيد الصهيوني المستمر منذ فترةٍ طويلة، وأذكته مؤخراً اقتحامات قطعان المستوطنين المتكرِّرة للمسجد الأقصى المبارك، ومداهمة مدن وقرى وبلدات الضفة الغربية، وخاصة الأماكن المقدّسة في الخليل والاعتداء السافر على الفلسطينيين والحرم الإبراهيمي الشريف، وما رافقها من ضحايا وهدم للمنازل وأملاك الفلسطينيين ونهب للأراضي الفلسطينية وسرقتها.
ربما للمرَّةِ الأولى في الصراع العربي- الصهيوني يُصاب العالم بالصدمة جرّاء العملية العسكرية المباغتة للفصائل الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة والردّ الصهيوني الوحشي عليها، فخلال ساعات انقلبت المنطقة برمتها رأساً على عقب وباتت مفتوحة على المجهول، مع ارتفاع منسوب العنف في عدد كبير من الجبهات، وسط توقعات المراقبين والمحللين السياسيين والاستراتيجيين بعواقب وخيمة على الجميع، ربما تؤدي إلى انفلات أمني شامل للأوضاع، وتنسف كلّ الجهود التي بُذلت لحلّ الصراع سلمياً والتي لم تحرز أي تقدّم، وخاصة المفاوضات المكوكية التي استمرت طيلة الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية المحتلة بعد اتفاق أوسلو الذي لم يلتزم الكيان الصهيوني بأيٍّ من بنوده الأساسية.
مع اندلاع هذه الموجة الساخنة من التصعيد، كانت العديد من الدول العربية سبَّاقة إلى الدعوة إلى ضرورة إعادة التفعيل الفوري للجنة الرباعية الدولية لإحياء مسار السلام الفلسطيني– الصهيوني.
يُذكر أن تلك اللجنة تُسمّى اللجنة الدبلوماسية الرباعية، وهي لجنة “دولية فوقية” في عملية السلام الفلسطيني- الصهيوني تتألف من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والتي أنشئت في العاصمة الإسبانية مدريد عام 2002 نتيجة لتصاعد الصراع في الشرق الأوسط.
إنَّ إعادة تفعيل تلك اللجنة لا يتمّ إلا باحترام القانون الدولي والشرعية الدولية والمرجعيات ذات الصلة، وبأن يكون مجلس الأمن الدولي عادلاً في تناوله للقضية الفلسطينية التي هي قضية مركزية للأمّة العربية، والمطالبة في ألا يكون عدد من أعضائه الدائمين منحازين صراحةً إلى جانب الكيان الصهيوني، وعدم دفعه إلى الانخراط في تهدئة شاملة تحقق الاستقرار وإحقاق الحق لجميع الأطراف المتصارعة وتسمح بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، وتحقيق الشرعية الفلسطينية.
الكيان الصهيوني باعتباره القوة العسكرية والأمنية القائمة بالاحتلال، يترتب عليه مسؤولية الانخراط الجاد في جهود السلام بشكل عملي، وملزم بوقف الاعتداءات الوحشية المتكررة والأعمال الاستفزازية ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، والالتزام بقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية والقانون الإنساني وحقوق الإنسان. أما تجاهل كل تلك المطالب وتلك الاستحقاقات، فلن يجلب له الأمن والاستقرار، إذا استمر الكيان الصهيوني على النهج العدواني نفسه على الشعب الفلسطيني ومقدساته وأملاكه ورفض الاستجابة للدعوات العربية والدولية الصادقة لإنصاف الشعب العربي الفلسطيني ومنحه حقه في إقامة دولته المستقلة وتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، والعيش بكرامة وأمن وأمان أسوة بكل الشعوب.
التصعيد المفاجئ الذي يشهده الكيان الصهيوني والأراضي الفلسطينية هو منعرج حاسم في تاريخ هذا الصراع المرير، ومفصل مهمّ من مفاصل النضال الوطني الفلسطيني، فإما أن تتغيّر القواعد والأسس القديمة القائمة على العنف وسفك الدماء والتخريب والتدمير الصهيوني الممنهج وتولد قناعات جديدة مبنية على الشرعية الدولية تؤمن بقيم التعايش والاستقرار والأمن والأمان، وإما أن ينهار كلّ شيء وتعود أطراف الصراع من جديد إلى المربَّع الأوَّل، فالفلسطينيون يؤكدون يومياً أنهم ضاقوا ذرعاً بالسياسات الصهيونية الوحشية المتطرفة، التي لم تعد تقيم لهم وزناً ولا تعترف لهم بأي حق من حقوقهم المشروعة.
وبالمقابل تمعن الحكومات الصهيونية اليمينية المتعاقبة في شطب كلّ ما هو فلسطيني، وتلغي حقوقه من خلال الممارسات الوحشية والجرائم التي ترتكب بحقه يومياً، على الرغم من أن هذه الرؤية ضيقة وقاصرة، ولا تتوافق مع الثوابت الإنسانية وحقوق الإنسان، فضلاً عن أنها تسير عكس جميع التيارات الدولية وتناقض نظاماً دولياً جديداً يتشكل بسرعة تكون الصين وروسيا ودول البريكس مساهمة فيه، وقد لا تجد فيه الحظوة والتغاضي والدعم الذي كان يتلقاه لعقود طويلة، وسيدفع الكيان الصهيوني الغاصب بذلك ضريبة فادحة لعرقلة السلام وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في المنطقة.