حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad

في دمشق: دواءٌ كثير وحبٌّ أكثر

سامي كليب...

حين اتَصَلت بي الدكتورة ربى ميرزا تدعوني لمحاضرة في نقابة الصيادلة في دمشق، فوجئت بطلبها. فلا أنا طبيب ولا علاقة لي بالعلوم الطبيعية ولا اعرف عن الدواء إلا ما أضطر لأخذه حين أُصاب بالزكام ولله الحمد. سألتها عن عنوان المحاضرة فقالت:" نريد أن نفتتح الموسم الثقافي بك، وأقترح أن تكون المحاضرة تحت عنوان: إلى أين أوصلتنا لعبة الأمم". شكرتها وبدأتُ باستعادة بعض الوثائق والأرقام والإحصاءات لدي كي تكون المحاضرة على مستوى نخبة من الأطباء والصيادلة والمثقفين السوريين.

 

الطريق بين لبنان وسوريا هذه الأيام تُثير الكثير من الدهشة والاهتمام. فعلى طولها ينثرُ الشتاءُ شالَه الأبي، وكلما صعدتُ صوب ظهر البيدر بين البلدين، ازداد منسوب الثلج، وازدحمت السيارات بين جانبي الطريق. تبدو الطبيعة واهبةً لنا خلاصة صفاء لونها الأبيض. يبدو الناسُ غيرَ آبهين لتعطُّل بعضِ سياراتهم، وأكثرَ ميلاً للتعاون وتبادل التحيات وإنقاذ من توقّف.

 

الإجراءات الحدودية بسيطة وسريعة ويتخللها ترحيبٌ وابتسامات، ثم ندخل الى الجانب السوري، فيُفاجئني عدد الناس الجالسين مع نراجيلهم فوق الثلج أو عند حفافي الطرقات أو عند سفوح التلال والجبال قرب بلودان. يتناولون المشروبات الساخنة ويتلذذون بما جلبوا معهم من أطايب المأكول البسيط، وينفثون دخان النارجيلة في الهواء صوب السماء، بينما أولاهم يتراشقون بكريات الثلج ويتضاحكون. تنتعش في الروح فكرةُ أن الحرب آيلةٌ فعلا إلى السقوط النهائي في آتون النسيان، وان من عاش ويلاتها يريد أن يرى الحياة وأن يبعث الفرح من فوق وتحت الركام... يبدو الشال الأبيض غطاء مناسباً لصفاء القلوب. أو هكذا يجب أن يكون.

 

لا بد من تلقّي اتصال فور الوصول إلى دمشق من عدد من الأصدقاء، فهم دائما مبادرون إلى المحبة، صادقون في التعبير عنها. أول الأصوات الذي وصلني عبر سماعة الهاتف، كان من الصديقة الغالية المبدعة ليندا بيطار: "هل وصلت بخير، نحن بانتظارك، ومعي عدنان (المايسترو المبدع والصديق الغالي عدنان فتح الله)، ومعي أيضاً عايدة (وهي مناضلة شفافة أكثر من بياض الثلج عبر حزبها القومي السوري ترشح محبة ووفاء). ثم تتوالى الاتصالات، فتنضم إلينا الصديقة الرقيقة والعميقة رفيف بينما زوجها الصديق والمناضل المثقف طارق الأحمد يحاول الوصول إلينا لكن خطورة الانزلاق مساء على الطريق الثلجية تحول دون ذلك ... فجأة أجد نفسي بين مجموعة من الأصدقاء المحبين، في مطعم دمشقي قديم يقدم لنا أشهى المأكول، وفيه أحاديث سياسية وبعض الزوايا المرصودة لكلام العشق في طاولات مجاورة.

 

بعد العشاء، جولةٌ مع الأصدقاء في شوارع دمشق. الصديق عدنان الذي يغالب زيادة السمنة ببعض الرياضة، ليس فقط أصغر مايسترو في سوريا، ولكنه أيضا خبير بكل زاوية وشارع وتاريخ وحضارة في بلاده. يقود سيارته ويشرح لنا ليلاً ونحن نعبر حواجز للجيش قليلة جداً، وحضارات كثيرة قابعة في كل زاوية وتحت كل حجر، يشرح تاريخ المدينة. فمن هنا مرّ صلاح الدين، وهنا ضريحُ ابن عربي، وهناك السور الذي يقال ان بولس أُنزل عبره، وهذا سوق التنابل... ماذا؟ التنابل؟ أسأله وأضحك، فيضحك الجميع في السيارة ويقول نعم، وسبب الاسم أنك تجد فيه كل الخضار والفواكه مُقشرة ومُنظّفة ومُعدّة للأكل، فيكفي أن تضيف إليها بعض التوابل وتتلذذ بالأكل....من لا يريد أن يتعب بتحضير الأكل يمكن أن يكون تنبلاً ويشتري ما لذ وطاب. نضحك طويلا، ونكمل الرحلة.

 

هنا باب توما، هنا باب شرقي، هنا استُشهد أطفال وأبرياء كثيرون بسبب القصف. هذا شارع النصر، وهنا كان باب ثامن اسمه باب النصر، يبدو أن له أصولا عثمانية، وهنا عبد الحميد أعطى اسمه لسوق الحميدية. يشرح لنا عدنان كل تفصيل، يرويه بصوته الهادئ القريب إلى القلب كفنِّه الرائع. ثم يتحسس بطنه، ويحدِّق في مرآة السيارة وينحرف يمينياً، فإذا بنا أمام محال وبسطات ليلية عامرة بكل صنوف الحلويات. يصلُ أريجها إلى أنوفنا، فلا نعود نُميِّزُ بين القطايف والمشبك والنمورة والبرازق والسحلب الساخن وغيرها من عشرات الأسماء. أرجوه أن لا يتوقف. فعشاؤنا كان غنياُ وما عاد في البطن مكان لغيره. ولكن كأني رجوته أن يتوقف. يترجل من السيارة سريعاً، يشتري لنا صحنا كبيرا من القطايف بالقشطة، نأكل واحدة، ثم نلتهم ما تبقى منها. ونضحك. استعاد الليل الدمشقي رونقه وروح المدينة.

 

نلامس وندغدغ روح أقدم مدينة مأهولة في التاريخ حتى ساعات الفجر الأولى. ثم نودع بعضنا وأعود مسكوناً بسحرٍ لا يعرف سرّه غير الله. ثمة شيء في دمشق وفي صوت السيدة فيروز يخرج من التوصيف التقليدي للأسماء والناس والأشياء والمدن، ليصل إلى مصافِ الملائكة. شيء تعشقه ولا تعرف سراً لهذا العشق.

 

أنام ملء الجفون لأصحو فجراً على آذان المسجد. افتح الستائر فإذا بآخر الأضواء تنطفيء خجلاً أمام الفجر. صحيح أن الكهرباء تأتي ساعات قليلة، لكني أنا اللبناني لا أستطيع إلا أن افرح بذلك، فعندنا انتهت الحرب منذ 19 عاماً ولا نزال نستورد الكهرباء من سوريا أو نشتريها عبر البواخر التي ينهب نصفها ساستُنا الفاسدون.

 

أول اتصال صباحي من الدكتورة ربى ميرزا. سيدةٌ زاخرة بالحيوية والمحبة. ناعمة المظهر لكنها ورشة كاملة من العمل والجهد الاستثنائيين. تطمئن على كل شيء. فأشكرها لنعود ونلتقي مساء. ثم يتوافد الأصدقاء لمشاركتي فطور الصباح، لا بد من حضور الصديقة العروبية الصريحة اللسان المثقفة والشاعرة رغم توليها منصب عميد في الجيش السوري السيدة عدنة خيربيك، ولا بد من صعتر وشنكليش وضحكات صباحية مع السيدة حياة، وحديث عن الصحافة والاعلام مع الصديقة يارا، ولقاءات عفوية مع مجموعة من الأصدقاء الإعلاميين والسياسيين المحبين.

 

جولة مسائية مع طبيب صيدلي، ثم نصل إلى شارع الحمراء يضج بالحياة والحيوية في محاله وخارج المحال. هنا قاعة المحاضرات لنقابة الصيادلة. هذه الدكتورة علياء الأسد نقيبة الصيادلة في دمشق تُطل باسمة مُرحبةً ناثرة حيوية وقوة شخصية. ما أن تنطق بكلمات الترحيب حتى أنتبه إلى ذاك التشابه اللافت بين صوتها وصوت الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. هي أبنة أخيه محمد الذي توفي باكراً، فتولى الرئيس حافظ تربية علياء وإخوتها. هذا مهم، لكن الجالس معها ينسى سريعاً هذا الرابط العائلي ليكتشف أن الدكتورة الصيدلية وصلت بعلمها وجهدها ونشاطها وسنوات طويلة من العمل الدؤوب في المجالات الطبية والاجتماعية إلى منصبها الحالي وليس بسبب رابط الدم.

 

تشرح لي أهمية أن يستمع الصيادلة والأطباء إلى تحليل سياسي علمي عميق. فهؤلاء هم عصبٌ مهم في المجتمع المدني. وهذا المجتمع بحاجة إلى تفعيل نشاطات كثيرة كي يستجيب إلى حاجات ما بعد الحرب في مرحلة النهوض.

 

سألتها عن عدد الأدوية المُصنّعة في سوريا، فهالني أن عددها يربو على الأربعة الآف. وصلت الدولة السورية إلى تأمين ما يقارب ٨٠ بالمئة من الأدوية للناس. ما عادت تستورد إلا الضروري كمثل أدوية السرطان واللقاحات وغيرها. أليس غريباً ومعيباً أن الكثير من اللبنانيين يستوردون أدوية من سورية بسبب ثمنها البخس ووفرتها، حين لا يستوردون من الأردن ومصر وتركيا؟ لماذا يوجد في سوريا أكثر من ٨٠ مصنعاً للدواء بينما لبنان يستورده؟ لماذا في سوريا الطبابة مجانية وكذلك التعليم، بينما في لبنان ثمة من لا يزال يموت على أبواب المستشفيات بسبب عدم توفر الامكانيات رغم الجهود المحمودة التي بذلتها وتبذلها وزارات الصحة عندنا...

 

نخبة من الصيادلة والأطباء والسياسيين والمفكرين كانوا هنا وجاء بعضهم من لبنان. فرحت بالنقاش معهم. فهمت كثيراً من الأمور. دخلت سيدة مُحجبة. هي عضوة في مجلس الشعب. باسمة المحيا ذكية العينين طليقة اللسان. صافحتها فلم ترد يدها إلى الخلف ولم تعتذر. بالعكس تماما صافحتني بحرارة وحدثتني عن منشأ رأسها إدلب التي لا تزال الأسئلة المصيرية كثيرة بشأنها. ثم هذه محجبة أخرى قامت وألقت قصيدة خصصتها لي. هذا هو الإسلام المعتدل، الإسلام ذو العمق الصوفي الأصيل الذي كانت سوريا تعرفه قبل غزوة الأفكار الإلغاء والتكفيرية.

 

كان شرف كبير لي وسعادة موازية، أن أتحدث في هذه الندوة التي جمعت وجوها تُدرك حجم المسؤولية الملقاة على النُخب السورية لما بعد الحرب. الأسئلة كثيرة حول هوية سوريا المقبلة وحول إعادة إعمار النفوس قبل الحجر وحول العروبة وفلسطين. قلت ما أفكر به، من أن نجاح سوريا بوضع مشروع نهضوي لما بعد الحرب من شأنه أن يُشكل نموذجاً يُحتذى اذا ما صفت النفوس وطويت الأحقاد وحورب الفساد وتعززت الحريات تحت سقف الوطن وليس ضد الوطن ولصالح أعداء الوطن.

 

ثم كان ختام الندوة بصوت المبدعة ليندا غنت جزءا من كلمات أغنية كان لي شرف تقديمها لها بعنوان دمشق وحلب....

 

كان كل شيء يوحي بالأمل رغم أزمات الغاز والأسعار والوضع الاقتصادي، لكني قلت في الندوة إن سوريا الخارجة أقوى مع محورها من الحرب على المستوى العسكري بحاجة لنهضة اقتصادية وسياسية، وأن أعداءها لن يتركوها تنعم بذلك، ما يفرض حرصاً كبيراً على تعزيز روابط الداخل والتعلم من أخطاء الماضي.....

 

لم يتأخر قلقي من الأعداء حتى أطلّ برأسه وأنا أغادر سوريا، ففي الصباح تكفير إرهابي عند المتحلق الجنوبي في قلب دمشق، وبعد ساعات غارات إسرائيلية.... الإرهاب وإسرائيل صنوان في محاولة منع سوريا من الاحتفال بخروجها من تحت الركام.... لا بأس فالمدن ذات العراقة الكبيرة تعرف أن قدرها هو كقدر السيدة الجميلة. كثيرون يحاولون خطب ودها، وحين يعجزون عن ذلك يسعون إلى تحطيمها، لكنها دائماً تقوم عروساً أبهى من تحت القهر والدمار.

 

شكرا لكم أيها الأحبة على كل هذه الحب...

اضافة تعليق