حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad

الحربُ السوريّةُ تغيّرُ العلاقةَ التركيّةَ-الإسرائيليّة

يُلاحظ مع انتهاء الحرب "الأهليّة" الضارية في سورية التي استمرت ثماني سنوات، أنَّه قد أدى عدم اليقين بشأن ما يخبئه المستقبل للبلاد إلى إقامة تحالفات جديدة أثناء اختبار العلاقات القائمة. تقع "إسرائيل" وتركيا على الحدود مع سورية، ولهما مصلحة استراتيجية في تسوية ما بعد الحرب التي ظهرت هناك. في حين لم يكن هناك نقص في الخلافات بين "إسرائيل" وتركيا طوال العقد الماضي، فإنَّ كلتيهما لديهما رغبة في رؤية الاستقرار عبر الحدود السورية. ومع ذلك، فلكلّ منهما مجموعة مختلفة من الأولويات في ضوء متطلبات الأمن الجيوسياسي والداخليّ. قد يكون لهذا الأمر عواقب بعيدة المدى على الاستقرار في سورية بعد الحرب، وينبغي أن يكون ذا أهمية وثيقة للولايات المتحدة –وهي حليف استراتيجي طويل الأمد لكلٍّ من "إسرائيل" وتركيا.
هذا، واستناداً إلى اتفاقيات التعاون العسكريّ الرئيسة، كانت "إسرائيل" وتركيا متحالفتين تاريخياً منذ تسعينيات القرن الماضي في السعي لتحقيق هدف مشترك: ردع "النظام السوري" عن الأعمال العدائية ضدهما؛ ذلك بإنشاء حصن على حدوده الجنوبيّة الغربيّة والشماليّة. ركزت مشاركة "إسرائيل" المباشرة المحدودة في الحرب "الأهلية" السوريّة على إحباط تهديد "داعش" والحدّ من الوجود الإيرانيّ ووجود حزب الله قرب حدودها مع الجولان ولبنان. تنخرط تركيا مع مسرح الحرب بتكلفة أكبر. نفذت القوات المسلحة التركية عمليتين برّيتين كبيرتين عبر الحدود في شمال سورية طوال عامين: عملية درع الفرات وعملية غصن الزيتون. تسيطر تركيا على الأراضي السورية في عفرين والمناطق المحيطة بها، وقد جمعت القوات على طول الحدود البالغ طولها 566 ميلاً. استقبلت تركيا أكثر من 3.6 ملايين لاجئ سوري منذ عام 2011، ما وضع عبئاً على اقتصادها المجهد بالفعل وأثار تغييرات سكانية لا رجعة فيها. لم تتلق "إسرائيل" شيئاً من اللاجئين، رغم قلقها من أنَّ قضية اللجوء تزعزع استقرار النظام في الأردن. رغم تجارب الحرب المتباينة، تشترك تركيا و"إسرائيل" في مخاوف متداخلة بشأن الاستقرار في سورية في المستقبل.
أولاً، يتمثل الهدف الرئيس المشترك في كبح مجال القدرة على المناورة للجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول ومجموعات الميليشيات. في الواقع، في منشور على Facebook في آذار/مارس 2013، أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن الدافع وراء اعتذاره للرئيس التركي أردوغان عن حادثة مافي مرمرة* كان الوضع في سورية: «سورية تتفكك، وبدأت مخزونات الأسلحة المتقدمة الضخمة بالسقوط في أيدي قوى مختلفة... من المهم أن تتواصل تركيا و"إسرائيل" مع بعضهما بعضاً».
هذا، ووفقاً لـ غاليا ليندن شتراوس، الباحثة في معهد دراسات الأمن القوميّ ومقره "إسرائيل"، في حين أن سورية لم تتطور إلى مجال للتعاون بين تركيا و"إسرائيل"، إلا أنها لم تصبح مجالاً للتنافس بينهما. ويرجع ذلك أساساً إلى الأولويات المباشرة المتباينة: تركز "إسرائيل" على اندلاع النزاع في جنوب سورية؛ بينما تهتم تركيا بمستقبل شمال سورية.
تنظر تركيا إلى إنشاء منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتيّ في شمال شرق سورية كتهديد وجوديّ، وتسعى إلى ضمان السلامة الإقليميّة للدولة السورية. تسعى تركيا إلى وقف المكاسب الإقليمية التي حققتها "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة والتي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب (YPG).
دعم "إسرائيل" لاستفتاء الاستقلال الذي أُجري في كردستان العراق في 30 أيلول/ سبتمبر 2017، وَضَعَها على خلاف مع تركيا. وفقاً لخبير السياسة الخارجية التركي الذي تحدثتُ معه، فإن أنقرة تتفهم أن المقاربة الإسرائيلية هي "الأصغر هو الأفضل" عندما يتعلق الأمر بجيرانها، ما يعني أن تجزئة سورية إلى مناطق صغيرة أو مناطق تتمتع بالحكم الذاتي ستخدم الأمن القومي لـ "إسرائيل" أكثر من وجود الدولة السورية الموحدة والقوية.
تبدي تركيا مخاوفَ مبالغاً فيها. تجربة "إسرائيل" الخاصة في الهجمات الإرهابية عبر الحدود تعني أنها تستطيع أن تفهم تماماً التحديات التي تواجه تركيا في سورية. تضيف ليندن شتراوس أنه بالنظر إلى قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من سورية، فمن غير المرجح أن تتخذ "إسرائيل" موقفاً قويّاً من مسألة الحكم الذاتي الكردي هناك.
إنَّ أولوية "إسرائيل" هي تفكيك تهديد حزب الله على حدوده الشمالية، ما يجعل من الأهمية بمكان اتخاذ خطوات لطرد القوات الإيرانية و"الميليشيات الشيعية" من سورية. مع انتهاء الصّراع السوريّ، يخشى أن تتحول الأنظار مجدداً إلى العدو المعلن وهو "إسرائيل". علاوة على ذلك، مع تقلص مشاركته داخل سورية، فمن المرجح أن يزيد حزب الله من موقعه في لبنان.
الهدف الثاني ذو الصلة هو أن تركيا و"إسرائيل" ترغبان في الحدّ من نفوذ إيران في سورية. كانت الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سورية، بما في ذلك غارة أيلول/سبتمبر 2018 على مستودعات الذخيرة في غرب سورية، إشارة واضحة على اعتزام "إسرائيل" الحفاظ على هيمنتها العسكرية في المنطقة، متجاهلة المخاوف من ردود الفعل من روسيا. بعد هجوم على مستودع أسلحة إيراني بالقرب من مطار دمشق الدولي في كانون الثاني/يناير، أعلن نتنياهو أن القوات الإسرائيلية هاجمت " أهدافاً إيرانية ولحزب الله مئات المرات".
هذا، ورغم أن تركيا جزء من تحالف يدعم إيران، إلا أنها تعاني من النفوذ الإيراني المطوَّل على سورية، فضلاً عن تطلعاتها المهيمنة على المنطقة ككل. لقد سعت تركيا للسيطرة على التوسع الإيرانيّ؛ لكنها واجهت نكسات بعد فشلها في الإطاحة بـ "نظام" الرئيس الأسد.
تتصور القيادة الإسرائيلية أنَّ لديها عدداً قليلاً من الحلفاء في محاولتها مواجهة ترسيخ القوة الإيرانية وحزب الله في سورية. ولكن هذه منطقة تشترك فيها تركيا و"إسرائيل" في مصلحة مشتركة. وفقاً لنمرود غورن، رئيس (Mitvim) المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، «يميل الإسرائيليون إلى المبالغة في تقدير علاقات تركيا مع إيران، ويميل الأتراك إلى المبالغة في تقدير علاقات إسرائيل مع الأكراد في شمال سورية». إن التغلب على المفاهيم الخاطئة وبناء الثقة المتبادلة –مهما كانت الصعوبة التي قد تظهر على المدى القصير– سيفيد كليهما في وقت تتم فيه إعادة تشكل الإطار الأمني في سورية.
ثالثاً، تدعم تركيا و"إسرائيل" عملية الانتقال السياسيّ إلى تسوية ما بعد الحرب؛ ذلك بتطبيق نظرتهما وإدراكهما المشترك بأن الرئيس بشار الأسد أعاد توحيد السلطة في المناطق التي خسرتها قوات المعارضة في معظم أنحاء البلاد وأنه لا توجد بدائل لقيادته.
معوقات إعادة تنظيم التعاون
لئن كانت هناك مصالح مشتركة ومعقّدة بشأن مستقبل سورية، فضلاً عن التعاون في الموارد الطبيعية والاستثمار والتجارة، إلا أنَّ عدداً من العوامل على الصعيدين الإقليميّ والمحليّ تعقّد عملية إعادة التنظيم على المدى القصير بين "إسرائيل" وتركيا.
يعتمد الوضع الحالي إلى حدٍّ كبير على ما تقدّمه روسيا لسورية. ورغم أنَّ الخطاب العام على العكس من ذلك، فإنَّ تركيا تحتفظ بعلاقة مضطربة مع جيرانها العرب، وتخلق المنافسات الطويلة الأمد نظرة تاريخية على نفوذ تركيا. لقد مالت تركيا نحو روسيا في السنوات الأخيرة في محاولة لإعادة ضبط عزلتها عن السياسة الخارجية التي ارتفعت بسبب أخطائها السياسية في مرحلة "الربيع العربي". لاستعادة الأهمية الاستراتيجية لمستقبل جارتها السورية، تستمر تركيا –العضو في الناتو– في التوجه نحو موسكو.
بالتوازي مع العلاقة المعززة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، فقد أقامت العلاقات مع روسيا في محاولة للحد من النفوذ الإيراني. يتمتع بوتين بعلاقات كبيرة مع المغتربين الروس والمستثمرين داخل "إسرائيل"، كما أن مواقف "إسرائيل" الإيجابية والمستمرة تجاه الكنيسة الروسية أدى إلى تحسّن العلاقات الثنائية. أكدت روسيا لـ "إسرائيل" أنها ستعمل على ردع إيران أو حزب الله عن فتح جبهة جديدة مع "إسرائيل". ومع ذلك، فإن تأثير نفوذ روسيا في "نظام" الرئيس الأسد ليس واضحاً، ما يجعل أي وعود لتركيا و"إسرائيل" بعيدة المنال.
في الوقت نفسه، تحسنت علاقات "إسرائيل" مع دول الخليج العربي بشكل كبير في المرحلة الأخيرة، وقد أشار انخفاض الخطاب المعادي لـ "إسرائيل" إلى نقطة تحول. تحتفظ "إسرائيل" بعلاقات تجارية قوية مع العديد من الدول، رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية.
جزء من هذه الشبكة الجديدة من العلاقات هي مصر التي تتنافس على نحو متزايد لإعادة إدراج نفسها كلاعب إقليمي؛ ذلك بالعمل كمحاور مع حماس، أزالت مصر فعليّاً المزاعم الرئيسة التي تحتفظ بها تركيا كمرشح للوسيط في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. هذا، وبوجود مصر في الصورة، علمت "إسرائيل" أن الاعتماد بدرجة أقل على تركيا كوسيط للتأثير على قيادة حماس في غزة.
وما يزيد الأمر تعقيداً تلك العقبات التي تحول دون إقامة علاقات أوثق في كل مكان على المستوى المحليّ حيث تتعرض تركيا لضغوط متزايدة لإيجاد طرق لتصحيح الركود الاقتصادي، وقد أكدت الانتخابات البلدية الأخيرة الفجوة داخل الرأي في جميع أنحاء البلاد. ربما تميل إدارة حزب العدالة والتنمية الحالية، المشغولة بالاستقرار الداخلي، إلى صرف انتباه شعبها من خلال المواقف ضد "إسرائيل".
وفي الوقت نفسه، فإن "إسرائيل" مليئة بمشاكل النهج الأحادي المتزايد في صنع السياسات التي تدعمها إدارة ترامب، والتي أدت إلى تراجع دور الحمائم في "إسرائيل". من السابق لأوانه معرفة إذا كانت مرحلة ما بعد الانتخابات الحالية في "إسرائيل" وتركيا ستخفف بعض الضغوط العامة وتشجع التعاون في المصالح الاستراتيجية المشتركة.
وهناك سبب آخر لعدم اليقين هو كيفية رد الفعل من قبل دول المنطقة على الإعلان الذي يلوح في الأفق حول "صفقة القرن" لحل النزاع العربي-الإسرائيلي، الذي استحضره كبير المفاوضين وصهر الرئيس دونالد ترامب، جاريد كوشنر. سوف تجد تركيا صعوبة أكبر في العمل مع "إسرائيل" إذا حددت الخطة نهاية حل الدولتين.
تعاونت تركيا و"إسرائيل" في الماضي عندما حلت المصالح المشتركة محل الخلافات قصيرة الأجل. في الوقت الحالي، لا توجد أسباب كافية لتوثيق العلاقات. قال خبير تركي اعتاد العمل في تل أبيب مؤخراً: «الله وحده يعلم» ما يخبئه المستقبل للعلاقات بين تركيا و"إسرائيل".
هذا، ووفقاً لـ غورن، رئيس (Mitvim) المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية، فإن سيناريو تطلق فيه "إسرائيل" وتركيا قناة للحوار السياسي والاستراتيجي في ما يتعلق بسورية سوف يحقق فوائد للجانبين –غير موجودة حالياً بسبب أزمتهما الثنائية. سيوفر انتهاء الحرب السورية فرصة مناسبة في الوقت المناسب لـ "إسرائيل" وتركيا للاعتراف بتوافق المصالح الجديد. يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً مثمراً لتقريبهما لتسهيل الاستقرار في سورية، وبخاصّة ضد النفوذ الإيراني المتزايد. من الواضح أن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي أنه على الرغم من أنّ الكلام الخطابي على عكس ذلك، فإن زيادة التطبيع والتعاون بين قوتين على المستوى الأمني والسياسي والاقتصادي سيصبح موضوعاً ضروريّاً في المرحلة المقبلة.

المصدر : مداد

 

اضافة تعليق