حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad

الأزمة الأمريكية- الإيرانية... بين الضغوط العسكرية واحتمالات التفاوض

سياسة حافة الهاوية معروفة في التاريخ القديم والمعاصر. قوامها ببساطة مزيج من التهديدات القولية والاستعدادات العملية التي توحي بقرار حرب أو مواجهة عسكرية ذات شأن، بما يضع ضغوطًا هائلة على الطرف الآخر المُستهدف بتلك الإجراءات، ومن ثم يحدث التراجع التدريجي عن قرار الحرب والدخول في مفاوضات أو تهدئة تمهد لاحقًا لتسويات سياسية للمشكلات التي تباعد بين الطرفين المعنيين. شيء من هذا القبيل يحدث الآن بين الولايات المتحدة وإيران: الأولى تستعد عسكريا وترسل مجموعة بحرية هجومية تقودها حاملة الطائرات "إبراهام لنكولن"، كما ترسل قاذفات بعيدة المدى بي 52 وبطاريات صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ، ومسئولوها العسكريون والسياسيون يتحدثون كثيرا عن التهديدات الإيرانية للمصالح الأمريكية في المنطقة ولمصالح الحلفاء أيضًا، لكنهم يربطون تلك الاستعدادات بأنها لمنع التهديدات الإيرانية التي تجمعت معلومات موثقة عنها وفقًا لتقديراتهم، وبالتالي فهي لمنع الحرب وليست لخوضها. وفي الآن نفسه يؤكدون أن كل ما تفعله الولايات المتحدة من عقوبات وحصار خانق على إيران هو بهدف تعديل سلوكها السياسي وليس إسقاط النظام. ومحصلة كل هذه المواقف تصب شكلا في التمهيد إلى مفاوضات تكون فيها إيران في أضعف حالاتها، وبالتالي تقبل الشروط الأمريكية. وهو ما دعا إليه الرئيس ترامب بوضوح.

الموقف الإيراني بدوره معروف، وفيه عدة اتجاهات:

أولها، أن طهران لن تقدم على مفاوضات مع الولايات المتحدة في ظل هذه الظروف، وقد تقبل بها إذا ما تراجعت العقوبات الأمريكية وهو ما ألمح إليه وزير خارجية إيران بالقول إن الخروج من الأزمة ممكن شرط التطبيع الاقتصادى، وهو شرط يبدو صعبا على الأقل في الوقت الراهن. ولا يعني ذلك تجاهل احتمال أن تكون هناك اتصالات غير مباشرة عبر الأوربيين تمهد لمفاوضات حول القضايا الخلافية وتؤدي إلى اتفاق جديد ترضي به الولايات المتحدة وإيران. وثمة تقارير تتحدث عن اتصالات من خلال سويسرا، ولكن بدون أية تفاصيل.

ثانيها، أنهم لا يريدون الحرب ولن يبدأوا بها، وهو ما أكده المرشد الأعلى خامنئي بكل وضوح، ولكنهم سيردون حال وقع هجوم عليهم، وسيكون الرد أولا ضد القوات الأمريكية والمصالح الأمريكية في عموم المنطقة. وتصريحات أحد قادة البحرية الإيرانية بأن الوجود العسكري الأمريكي كان تهديدا والآن أصبح فرصة هي أوضح تعبير على أن إيران سوف تستهدف بقوة القطع البحرية الأمريكية في الخليج ومواقع تمركزها البرية لاسيما في العراق إذا فرُضت عليها الحرب. ويضيف الإيرانيون أيضًا إسرائيل كهدف في أي حرب مقبلة من خلال صواريخهم بعيدة المدى، وعبر أطراف إقليمية ذات صلات قوية مع طهران، والإشارة هنا لكل من حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وفصائل جهادية فلسطينية في غزة. وهو ما أشار إليه اللواء حسين سلامي -القائد العام للحرس الثوري الإيرانى- الذي اعتبر أنالولايات المتحدة تخشى من فصائل المقاومة، وأن الأمريكيين يوجهون التهديدات بصورة انفعالية. ورغم كونهم عدوا قويا ظاهريا لكنهم يعانون من هشاشة داخلية.  

ثالثها، إنهم (الإيرانيون) لن يتراجعوا عن مطالبة الاتحاد الأوروبي وكل الدول الأخرى الداعمة للاتفاق النووي لتأمين المصالح الإيرانية حسب الاتفاق والالتفاف على العقوبات الأمريكية.  

الوضع على هذا النحو يستبعد الحرب من كلا الطرفين ويستعد لها في الآن نفسه. ولكل منهما تصوراته حول بدء الحرب وكيفية تكبيد الطرف الآخر أكبر خسائر ممكنة. وهنا يمكن التفرقة بين شكلين من الأعمال العسكرية المحتملة:

الأول، مواجهة أو ضربة محدودة ذات طابع رمزي ومحسوبة بحيث لا تتطور إلى أعمال عسكرية كبرى، والمرجح نظريا أن تقوم الولايات بمثل هذه الضربة بعد تدبير مبررات قوية لها، وبعدها تؤكد أن لا نية لها في توجيه أية ضربات أخرى بهدف احتواء الرد الإيراني. ولا يلغي هذا المستوى احتمال الرد من قبل ايران لحفظ ماء الوجه.

الثانى، هو عمل عسكري كبير أو حرب شاملة، وهو ما لا يتوافق مع حجم الحشد العسكري الأمريكي الحادث بالفعل، والذي يفتقر إلى قوات برية كبيرة العدد.

وكثير من المحللين الذين يستبعدون الحرب الكبرى يشددون على عاملين يتعلقان بالرئيس ترامب؛ أحدهما كان وعدا انتخابيا وأنه يفضل عدم التورط مباشرة في حرب إقليمية، بل يسعى إلى إخراج الجنود الأمريكيين من البلدان التي ينتشرون فيها بعد حروب سابقة ما زالت تداعياتها تتفاعل كما هو الوضع في أفغانستان والعراق وسوريا. والعامل الثاني أن الرئيس ترامب الساعي إلى خوض السباق الانتخابي الرئاسي، ويطمح بالفوز بمدة ثانية، لا يرغب في التورط في حرب قد تمتد مدة طويلة ويترتب عليها خسائر بشرية أمريكية كبيرة مما يؤثر على حظوظه في السباق الرئاسي.

ويلفت النظر هنا أن الرئيس ترامب نفى بقوة ما ذكرته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية بشأن خطة تم مناقشتها قدمها القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي قوامها تعبئة وحشد 120 جندي أمريكي في منطقة الخليج. ومعروف أن الحشد البري يستهدف عادة احتلال أجزاء من أراضي الطرف الخصم. ودلالة نفي الرئيس ترامب تصب في تجنب الوقوع في ورطة حرب كبرى غير مضمونة النتائج، وتكون مرشحة لتطورات غير مرغوبة، لاسيما وأن إيران لديها قدرات عسكرية قادرة على توجيه ضربات عسكرية في اتجاهات عدة.

واللافت للنظر هنا أن الرئيس ترامب اعتبرر نشر وسائل الإعلام الأمريكية مثل هذه التقارير تضر بالأمن القومي الأمريكي، نظرا لأنه يكشف الطريقة التي يدير بها البيت الأبيض الأزمة مع إيران، وبالتالي يجعل الضغوط الأمريكية أقل حدة عما يطمح إليه الرئيس ترامب شخصيا. وفي السياق ذاته، تعددت التقارير الأمريكية حول قدر من الانقسام داخل البيت الأبيض، حيث يركز كل من وزير الخارجية بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون على توجيه ضربة عسكرية لإيران، وهو ما يخالف أسلوب الرئيس ترامب، الذي يعتمد التهديدات والتحركات المحسوبة التي لا تصل إلى حد عمل عسكري غير مأمون العواقب.

والظاهر أن طهران تستند إلى هذا التفسير في ترجيح عدم إقدام الرئيس ترامب على شن حرب ضدها، وتعتبر أن الحشد العسكري الأمريكي هو لمجرد التهويش وحرب نفسية للتأثير على الرأي العام الإيراني. لكن ردود الأفعال الإقليمية تميل إلى التحسب من أسوأ الاحتمالات الممكنة. إذ وجه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الحرس الوطني الكويتي بأخذ أقصى درجات الحذر والحيطة في أداء المهام وحماية المؤسسات الوطنية وأمن المواطنين والتعاون مع الجيش والشرطة، نظرا للتطورات والمستجدات الخطيرة في المنطقة. وهو توجيه يعني ضرورة الاستعداد لما قد تتطور إليه الأمور بما لا يُحمد عقباه. وقررت البحرين دعوة مواطنيها إلى عدم السفر إلى إيران أو العراق نظرا للتوتر القائم في المنطقة. كما دعا الملك سلمان إلى عقد قمتين خليجية وعربية في 30 مايو بمكة المكرمة وذلك من "بابالحرص على التشاور والتنسيق مع الدول الشقيقة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية، في كل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة."

تاريخيا، فإن الحروب التي تخلتط فيها دوافع سياسية واستراتيجية كبرى واعتبارات دينية، لا تستند دائما إلى تحركات عقلانية وحسابات دقيقة. ما جرى في الأيام القليلة الماضية، حيث تعرضت أربع سفن تجارية من جنسيات مختلفة -منها ناقلتا نفط- لأعمال تخريبية قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي، تشكل بالفعل فعلا خطيرا. ويُلاحظ هنا أربعة  أمور ذات دلالة؛ الأول، أن الوصف يتعلق بأعمال تخريبية دون تحديد المسئول عن هذا العمل، وهو ما يمكن تفسيره إما بعصابات تهريب كبرى، وهو أمر غير معروف في هذه المنطقة البحرية الأكثر إزدحاما بالقطع البحرية العسكرية ونظم الحماية والرقابة البحرية المتطورة، وبالتالي يمكن استبعاد هذا التفسير. والأمر الثاني يتعلق بالتحليلات التي وردت في صحف إيرانية قريبة من الحرس الثوري، حيث وصفت تخريب السفن قبالة ميناء الفجيرة بأنه من فعل "الأطراف المقاومة"، وهو تعبير يعني جهات مؤيدة لإيران ومعارضة للدول الخليجية. كما وصف رئيس البرلمان الإيراني ما جرى بأنه تفجيرات في ميناء الفجيرة. وهو ما قد يُفسر بأن هناك معلومات لدى الجانب الإيراني حول الجهة الفاعلة وطريقة فعلها. وفي تصريح لأحد أعضاء البرلمان الإيراني تم توجيه الاتهام لطرف ثالث لم يحدده أراد إشعال الموقف في الخليج؛ في حين أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية ترجح إسرائيل كطرف ثالث، ولكن ليس لديها دليل مؤكد. وهو مواقف وتفسيرات متضاربة في اتجاهاتها.

أما الأمر الثالث فهو عدم إقدام أي طرف على إعلان مسئوليته عن هذا التخريب، وهو غموض يزداد مع غياب أي صور أو لقطات فيديو من الجهات الدولية التي تراقب هذه المنطقة الحيوية بالأقمار الاصطناعية ووسائل مراقبة حديثة على مدار الساعة. وربما لدى جهة دولية ما معلومات معينة ولكنها تفضل الاحتفاظ بها لوقت آخر، حيث يتم توظيفها بما يناسب أهداف تلك الجهة. وفي سياق توسيع الاحتمالات فمن المُحتمل نظريا أن تكون الجهة الفاعلة ذات صلة بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، تنفيذا لتهديدات زعيم التنظيم.

ويختلف هذا الوضع عن حالة قيام سبع طائرات مسيرة حاملة لمتفجرات أطلقها الحوثيون من الأراضي اليمنية، حيث أصابت محطتي ضخ نفط سعوديتين بأضرار محدودة، وأعلن الحوثيون مسئوليتهم عنها وتشديدهم بالقدرة على تكرار الأمر مستقبلا. وهنا فالفعل والفاعل معروفان للكافة. وهوما يناقض أعمال التخريب التي تعرضت لها السفن الأربع.

الأمر الرابع والأخير، فإن التخريب أصاب فقط أهدافا مدنية تخص دولتي الإمارات والسعودية، وفي هذا رسالة بأن مصالح هاتين الدوليتن باتتا مهددتين بشكل أو بآخر، كذلك مصالح العديد من الدول التي تعتمد على نفط الدول الخليجية، وأن ما حدث هو مجرد رسالة تحذير. وإذا ما ثبت أن جهة ما مرتبطة بإيران هي المسئولة عن هذا الفعل التخريبي فسُيعد تطورا نوعيا خطيرا، ويمثل قفزة نحو أوضاع أكثر خطورة في القريب العاجل. وفي هذه الحالة سيعطي مبررا قويا ومصداقية للحشد العسكري الأمريكي الكبير في الخليج، كما سيبرر أيضا أي ضربة عقابية أيا كان حجمها لأهداف مختارة في العمق الإيراني.

الجهات المعنية عربيًا وأمريكيًا ودوليًا عليها التصرف بشكل أكثر حذرًا، وعليها اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا بالنسبة لمراقبة ما الذي يجري في الخليج، خاصة في المناطق المشاطئة للإمارات وعمان ومضيق هرمز، مع التركيز على احتواء التوتر وليس دفعه إلى مواجهة غير مأمونة العواقب.

مركز الأهرام للأبحاث والدراسات

اضافة تعليق