حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad

هِجْرَةُ الكفاءاتِ والعُقُولِ السوريّةِ نزيفٌ تنمويٌّ مستمرٌ

يكتنفُ البحث في موضوعِ الكفاءات السوريّة المهاجرة الكثيرُ من الغموضِ والتعقيدِ، بسبب ندرة المصادر الموثوقة رقميّاً وتحليليّاً، وهو ينطوي على مغامرة علميّة في مجال لم يلقَ الاهتمام الكافي، ولم يحظَ بدراسات تفصيلية يمكن البناءُ عليها إلا بشكل محدود جداً؛ ذلك استناداً إلى أكبر عدد من البيانات والبحوث والتقارير الوطنيّة والدولية ذات الصلة، وإخضاعها لرؤية نقدية تهدف إلى توظيف الأرقام والمعطيات الكمية المتاحة في إطار رؤية تنمويّة تستخدم منهجيّة متعددة المستويات، أتاحتها التغيرات التي تسم ثورة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة العاصفة، جرّاء تعدّد العوامل التي أنتجت الظاهرة وتداخل الاقتصاديّ مع الاجتماعيّ وتفاعلهما مع العامل السياسيّ الذي أصبح جوهريّاً أكثر مع الأزمة والحرب التي عاشتها سورية.

يُظهر التحليل تنوّع العوامل المسببة لهجرة النخب العلميّة السورية، ويحدد الأسباب الطاردة للكفاءات العلمية، وهي:

-انعدام الاستقرار الأمني (فجوة الأمان).

-انخفاض مستوى دخل الفرد.

-ضعف البحث العلميّ ومؤسساته.

-فقدان آفاق الإبداع والتطوير، بما في ذلك البحث عن عمل لائق يحقّق الأجر العادل والديمومة والحماية من الاستغلال.

شكّلت اقتصاديات المعرفة، والمجتمع القائم على المعرفة، مرحلة جديدة في تطور منظومة علاقات القوة، من العسكرية إلى الاقتصادية إلى قوة المعرفة ومجتمع المعرفة بحسبانه المرحلة العليا في تطور المجتمعات، وهو ذلك المجتمع الذي يعتمد في نمط وجوده وسيطرته على إنتاج ونشر واستثمار المعرفة بكفاءة في جميع مناحي الحياة. الأمر الذي دفع البلدان والمجتمعات إلى التسابق في حيازة المعرفة وتوظيفها، سعياً وراء القيمة المضافة العالية الناتجة عن الاستثمار في الذكاء الإنسانيّ ومناجم العقول، بوصفهما ثروة لا تنضب، فأصبح الإنسانُ وسيلة للتنمية وغاية لها في آنٍ معاً.

وفقاً لهذه الرؤية، يشير مفهوم الرأسمال البشريّ إلى التوليفة التي تجمع المعرفة والتعليم والجدارة والكفاءات الجوهرية للأفراد في ميدان العمل والإنتاج. إذ يعرّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رأس المال البشريّ بأنه "كل ما يزيد من إنتاجية القوى العاملة بوساطة القدرات والمهارات المعرفية والتقنية التي تكتسبها، أي من بوساطة العلم والخبرة". فما حالة ومؤشرات رأس المال البشري في سورية؟ وإلى أي حدّ يمكن التعويل عليه كأحد المداخل المحتملة لبناء مستقبل سورية؟؟

وقد أخذت هجرة الكفاءات تشكل إحدى أهم خصائص الهجرة الخارجيّة في سورية التي تعمقت في مرحلة الأزمة والحرب، وازدادت حدّتها، في ظل اشتداد المنافسة الدوليّة، على استقطاب الكفاءات ورأس المال البشريّ المؤهل. وتشير الدراسات إلى أن نسبة السوريين المهاجرين الحاصلين على شهادة التعليم الجامعيّ العالي تتجاوز 35% من إجمالي المهاجرين الذين تحتاجهم سورية في مرحلة ما بعد الحرب. وهؤلاء ثروة وطنية فتية، إلى جانب كونهم كوادرَ وكفاءاتٍ ومواردَ بشرية وعلمية، يصعب على النظام التعليمي السوري تعويض وتأهيل كوادر مماثلة في مدة قصيرة.

هذا، وسواء أَتعلّقت الأسباب الكامنة وراء هجرة العقول بالعوامل الشخصية المتصلة بالطموح والرفاهية المادية وتقدير الذات، أم ارتبطت بالخوف والهروب من الخدمة العسكرية والقلق والبحث عن الآفاق، أم تعلقت ببيع الأحلام والأوهام وتصوير الخروج من البلد على أنه الخلاص، والوصول إلى أوروبا بوصفها الفردوس المفقود، أم حاجة هؤلاء أو بعضهم إلى المزايا والتقدير وحريات البحث والتفكير والوصول إلى نمط عيش أكثر رفاهية، أم كان الأمر يصب في صالح سياسات تريد إضعاف البلد وتفريغه من طاقاته، أو سواها من الأسباب، فقد أصبحت ظاهرة الهجرة أمراً واقعاً، وينبغي تقصّي ودراسة أسبابها ونتائجها وتأثيراتها المديدة في مستقبل سورية، وفي الاقتصاد والمجتمع.

تمثّل العناية بالنخب والكفاءات السورية المهاجرة فرصة تنموية ضيعتها الحرب بتبعاتها ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، لكنها، وفي الوقت نفسه، دللت على ضرورة الاهتمام برأس مالنا المعرفيّ والبشريّ، ممثلاً بهذه العقول وإبداعاتها، نظراً لدورها الحيويّ في رسم ملامح مستقبل سورية ومصير أجيالها القادمة.

المصدر : مداد 

اضافة تعليق