حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad
أحدث الأخبار

الدفاع الاستراتيجيّ الجديد ومستقبل توازن القوى العالميّ...

كانت الطائرة بدون طيار (MQ-1 Predator) تعدّ السلاح الأيقوني، لما أُطلق عليه “اللحظة أحادية القطب” بعد نهاية الحرب الباردة، عندما وقفت الولايات المتحدة بمفردها دون منازعٍ باعتبارها القوة العظمى المهيمنة على مشهد العلاقات الدولية، ووحدها من يمتلك أيقونة تلك اللحظة عسكرياً وتقنياً.

 

راهناً، لم تعد أميركا تمتلك حصرية التكنولوجيا العسكرية التي تسمح لها بالهيمنة، بل أضحت في منافسةٍ شديدةٍ مع خصومها على صدارة المشهد، في مشهدٍ ميدانيٍّ استراتيجيٍّ جديدٍ يعبر عن أفول لحظة الهيمنة تلك، وميدانه الفضاء الخارجيّ، حيث بات حاكماً لتوازنات القوى الجديدة في العلاقات الدولية.

 

خلال الـ 65 عامًا منذ إطلاق أول قمرٍ صناعيٍّ روسيٍّ إلى الفضاء (سبوتنك-1)، طورت البشرية من وجودها في الفضاء من العدم إلى الاعتماد على الموارد الفضائية لدعم العمليات العسكرية والابتكار، وفي عالمٍ يتحول بسرعةٍ إلى الرقمنة ويعتمد على البنية التحتية الرقمية، باتت أنظمة الفضاء حيويةً للحكومات والشركات والحياة اليومية، كما تلعب أدوارًا حاسمةً في الأمن البشريّ والقوميّ، حيث تمسّ كلّ شيءٍ تقريباً، بدءًا من الاتصالات والاستخبارات إلى الملاحة والتنبؤ بالطقس ورصد تغير المناخ والتخفيف من آثار الكوارث، ومع ثورة الإنترنت من الجيل الخامس (5G) وإنترنت الأشياء (IoT) المرتبط بالأقمار الصناعية، بات الفضاء حاجةً موضوعيةً للدولة الراغبة ببلوغ عتبة القطبية الدولية، وبينما تسعى الحكومات والجهات الفاعلة الخاصة إلى الاستفادة من الفوائد الاستراتيجية والتجارية للفضاء، أصبح الفضاء مزدحمًا ومتنازعًا عليه بشكلٍ متزايدٍ، وميداناً جديداً للتنافس الاستراتيجيّ الدوليّ، إذ أنّ هناك 77 دولةً ومنظمةً متعددة الجنسيات تمتلك أقماراً صناعيةً وتقوم بتشغيلها، إلى جانب عددٍ متزايدٍ من الكيانات التجارية العاملة بالمثل في استكشاف الفضاء، وللولايات المتحدة الحصة الكمية الأكبر من تلك الحيازات، إذ تستحوذ على ثلثي الموارد الفضائية )العسكرية) بما يقرب من 110 أقمارٍ صناعيةٍ عاملةٍ مرتبطةٍ بالجيش، بينما روسيا تمتلك حوالي 40 قمراً، وبقية العالم حوالي 20 قمراً، أمّا تجارياً فتمتلك أكثر من 80 دولة ما مجموعه تقريباً 3500 قمراً صناعياً نشطاً تدور في الفضاء.

 

في حقبة الحرب الباردة كانت خبرة الدول في الفضاء مؤشراً هاماً على كونها قوةً عظمى، وخلالها عززت خبرات الأقمار الصناعية الردع النوويّ، لأنّ القوى العظمى اعتمدت عليها لتعزيز استقرار الضربة النووية الثانية، وفي السنوات القليلة السابقة، عززت القوى الكبرى الابتكارات التكنولوجية في الفضاء للاستخدامات السلمية كوسيلةٍ للقوة والكفاءة.

 

راهناً، أصبح إتقان تكنولوجيا الفضاء العسكرية أيضًا من الاهتمامات الرئيسة للقوى الناشئة والصاعدة، وفي سياق التنافس المتزايد بين القوى العظمى والصاعدة، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، فإنّ الاتجاه المتزايد لتسليح الفضاء بات هو مستقبل الحرب والمكانة الدوليين، فأسلحة الفضاء الجويّ عالية الدقة المدعومة ببيانات الأقمار الصناعية أصبحت لا غنىً عنها لحسم المعركة على الأرض، ومعه باتت الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية (ASAT) تمثل ذروة المشهد الاستراتيجيّ تلك، وهيّ أسلحةٌ فضائيةٌ مصممةٌ لتعطيل أو تدمير الأقمار الصناعية لأغراضٍ استراتيجيةٍ أو تكتيكية، تمتلكها العديد من الدول، على الرغم من عدم استخدام أيّ نظامٍ مضادٍ للأقمار حتى الآن في الحروب، إلّا أن عددًا قليلاً من الدول (مثل الصين والهند وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) نجحت في إسقاط أقمارها الصناعية لإثبات قدراتها المضادة للأقمار في استعراضٍ واضحٍ للقوة، كما تم استخدام الأقمار الصناعية المضادة للأقمار لإزالة مثيلاتها التي خرجت من الخدمة، وهنالك نوعين لتلك الأسلحة: هما، قمرٌ صناعيّ (killer satellite) وهو مصممٌ للبحث عن قمرٍ صناعيٍّ قريب للعدو وتدميره عن طريق تفجير نفسه في سحابةٍ من شظايا معدنية عالية السرعة، أو قد يكون مزوداً بأسلحة الميكروويف عالية الطاقة لتدمير الهدف، والثانيّ أنظمة صواريخ أرضيةً معدةً لذات الغرض، ومع خشية القوى الكبرى من حدوث مفاجأةٍ تكنولوجيةٍ لدى إحداها تسمح بهيمنتها على الفضاء، وكون الأقمار الصناعية تمثّل عوامل تمكين أساسيةً لأسلحة الضربات الدقيقة والصواريخ العابرة للقارات، كما تمثّل عاملاً حاسماً في الردع النووي، وتفادي الضربة الأولى ونجاح الضربة الجوابية، لذلك بات امتلاك التكنولوجيا المضادة للأقمار الصناعية، عاملاً أساسياً في حسم المعركة على الأرض أو تقليص فجوات توازن القوى، إذ يعتمد إسقاط القوة العسكرية للخصم على تدمير موارده الفضائية للقيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات والهجوم الاستراتيجيّ، هذه المستجدات عمقّت من المعضلة الأمنية العالمية (Security dilemma)، إذ تعتقد الولايات المتحدة أنّ خصومها الاستراتيجيين (روسيا والصين) عازمين على إزاحتها عن مركزها كقوةٍ فضائيةٍ رئيسةٍ في العالم، ورغم أنّ الولايات المتحدة تعدّ رائدة صناعة وتجارب الأنظمة المضادة للأقمار الصناعية، وكانت التجارب الأولى تحت اسم (بولد أوريون) وهو صاروخ باليستيّ يطلق من الجو، ولاحقاً تم تجربة صاروخ ASM-135A المضاد للأقمار الصناعية، والذي أطلق من طائرة F-15A في العام 1985، ولكنّ البرنامج تم إيقافه في العام 1988، إلّا أّنها باتت تخشى تفوق خصومها عليها بهذا الحقل العسكريّ المتقدم، إذ دخلت الصين سباق النظم القاتلة للأقمار الصناعية في العام 2007 عندما دمرت قمرًا صناعيًا قديمًا للطقس بصاروخٍ باليستيّ، وعلى الرغم من إعلان بكين أنّ طموحاتها سلمية، إلّا أنّ استراتيجية بكين ترى الفضاء كمجالٍ عسكريّ وهيّ تشارك بشكلٍ كبيرٍ في البنية التحتية الفضائية، وقد طوّر الجيش الصينيّ قوة الدعم الاستراتيجيّ في العام 2015، والتي تجمع بين وظائف الحرب الإلكترونية والفضائية والإلكترونية التي تستخدمها الوحدات البرية والجوية والبحرية والصاروخية في البلاد، وعلى أثرها أطلقت الصين صاروخ (شيجيان 17) في العام 2016 كنموذجٍ واعدٍ للأقمار الصناعية القاتلة، بعد فترةٍ وجيزةٍ منذ ذلك، تم تشكيل قوة الفضاء الأمريكية باعتبارها الفرع السادس المستقل للجيش بموجب قانون تفويض الدفاع الوطنيّ الأميركي لعام 2020 ردًا على التهديد الذي يشكله أعداءٌ محتملون للأصول الفضائية الأمريكية، وفي 15 تشرين الثاني 2021، اختبرت روسيا أيضاً نظامًا للأسلحة المضادة للأقمار الصناعية (ASAT) من طراز (“إيه – 235” نودول) خلال تدمير أحد أقمارها الصناعية غير النشطة (كوسموس 1408) على ارتفاع حوالي 300 ميلٍ فوق سطح الأرض، وبذلك حققت روسيا هدفين: الأول عززت قدراتها الدفاعية والردعية، والثاني عرضت قوتها قبل اختبار وإثبات واستخدام قدرات الأسلحة المضادة للأقمار التي يمكن أن تحظرها الآليات الدولية أو تقيدها بشكلٍ كبير مستقبلاً. بالإضافة إلى ذلك، ضمنت روسيا أنهّا ستكون طرفًا مهمًا في أيّ عمليةٍ تنظيميةٍ دوليةٍ كبرى محتملةٍ من خلال امتلاك مثل هذه القدرة علنًا.

 

راهناً، ومع غياب الأطر القانونية الدولية الكافية لتنظيم علاقات الدول في الفضاء، بات الاستقرار الاستراتيجي العالميّ في خطر، والعالم بدء حقبةً جديدةً من التسلح الفضائيّ، وباستثناء معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 والمختلف على تفسيرها لا يوجد إطارٌ قانونيٌّ يمنع فعلياً من سباق تسلحٍ فضائيّ، فالمعاهدة تنص على أنّ جميع الدول يجب أن تتمتع بحرية الوصول إلى الفضاء وأنّ استكشاف الكون يجب أن يكون مشروعًا سلميًا “لصالح ومصالح جميع البلدان”، ولا يمكن لدولةٍ الاستيلاء على الأجرام الفضائية، كما تحظر المعاهدة على الدول وضع أسلحةٍ نوويةٍ في المدار وتكلف الدول بـ “تجنب التلوث الضار للأجرام السماوية”، وإذا كانت المعاهدة تلك تحظر الأسلحة النووية في الفضاء الخارجيّ لكنّها لا تحظر أشكالًا أخرى من النشاط العسكريّ مثل أقمار التجسس أو الأسلحة التقليدية مثل الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية، لذلك تعمل الدول )ذات الإمكانيات الفضائية) على تطوير قدرةٍ فضائيةٍ مضادةٍ في سباق تسلحٍ فضائيّ جديد، ومع تصدع الاستقرار الاستراتيجيّ العالمي الذي بدء مع انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى، ولاحقاً مجريات الحرب الأوكرانية، بات التفوق في الفضاء عنوانٌ جديدٌ لسباق التسلح العالميّ، وأحد معايير توازن القوى الجديد، وبانتظار ما ستؤول إليه مشاورات منع عسكرة الفضاء، يبقى الكلام عن سلامة الفضاء مجرد أحاديثَ سياسية، مالم يتم تعديل اتفاقية الفضاء لعام 1967، ومنع التجارب الأرضية لنظم الصواريخ القاتلة للأقمار الصناعية، وهو أمرٌ بالغ الصعوبة في ظلّ عدم استقرار مفاوضات الردع النوويّ ) تدابير تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها)، واحتدام الصدام الغربيّ مع روسيا، والمخاوف الغربية من الصين كقوةٍ صاعدةٍ قادرةٍ على تهديد مكانة الولايات المتحدة التي شغلتها لعقود.

 

وإذا كانت الطائرة المسيرة (MQ-1) تعدّ السلاح الأيقوني، لما أُطلق عليه آنذاك “اللحظة أحادية القطب”، فإنّ نظم الصواريخ القاتلة للأقمار الصناعية (ASAT)، تعدّ راهناً السلاح الأيقوني لما يمكن أن يطلق عليه (اللحظة متعددة الأقطاب).

اضافة تعليق