حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad
أحدث الأخبار

73 عاماً على اندحار المحتل الفرنسي.. السوريــــون أرادوه جـــلاءً كامــلاً ناجــزاً وكــان لهـــم ذلـك.. ويناضلون اليوم ليكون نصرهم ملء الدنيا وسيكون لهم ذلك

 

ما زلنا وسنبقى نسميه: الجلاء.. تفرداً وامتيازاً، وما زال وسيبقى عيدنا الوطني الأغر.. البداية لسورية الدولة والسيادة والمكانة والقرار.

وما زلنا نسميه: الجلاء.. التسمية تكاد تخص السوريين وحدهم، اختاروها بعناية ودقة، فما حدث في يوم 17 نيسان 1946 كان أكبر من استقلال، لم يكن مجرد خروج لقوات أجنبية غازية محتلة، بل كان تماماً بالمعنى الحرفي (اللفظي) لكلمة الجلاء أي الخروج الواضح البيّن الكلي والنهائي.. من دون قيد أو شرط.

لنوضح أكثر..

– عندما نقول جلاء المحتل الفرنسي عن سورية فهذا لا ينسحب فقط على الجلاء العسكري، بل يتضمن جلاء المحتل بكل ما هو مرتبط به، بمصالحه وقطاعاته التي أنشأها على الأرض بـ«ثقافته» التي حاول أن يفرضها علينا.. بأدواته.. بعملائه وأزلامه.. الجلاء الذي حققه السوريون كان كاملاً، لم يبق لفرنسا ما يمكن لها أن تعول عليه لتعود، أو لتعيد إنتاج احتلالها بأدوات أخرى وخدع جديدة.. كان العالم حينها – في أربعينيات القرن الماضي – يتشكل من جديد ويعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، وكذلك كانت سورية بعد تمزيق وجه الاحتلال، تبني نفسها وقوتها.. وصمودها.

– امتازت سورية بجلاء ناجز، بعكس دول أخرى استقلت نظرياً فيما بقيت بمضمونها تعتمد على أدوات المحتل وترتبط بمصالحه، للبقاء وليس للتطور والازدهار، وحتى لو تغير الحال فيما بعد وحققت «تطوراً وازدهاراً» فهو أيضاً كان مرتبطاً بالمحتل وبمصالحه أولاً، وإن كان اختلف وجه الاحتلال، فهذا لا يغير واقع الحال.

– امتازت سورية بجلاء أنجزته موحدة أرضاً وشعباً، لم ينجح المحتل الفرنسي في تقسيم سورية رغم محاولاته المستميتة في سبيل ذلك.. وكما احتفال العام الأول 1946 كانت احتفالات الأعوام والعقود اللاحقة تعم سورية كلها (وصولاً إلى السوريين في دول الاغتراب).. لم يختلف السوريون يوماً على هذا العيد أو على من صنعه، لم يختلفوا في أنهم تفردوا باستقلال ناجز ناصع لا تشوبه شائبة.. استقلال لكل السوريين، ليس محسوباً على حزب أو طائفة أو دين أو على «نظام».. أجدادنا وآباؤنا هم من صنعوا يوم الجلاء، ونحن الأبناء كنا نحتفل به، وأذكر أننا في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا ومعاملنا كنا نستعد لاحتفالات عيد الجلاء لأسابيع قبل اليوم الموعود.. ثم، كنا نحتفل وكأننا تماماً في يوم 17 نيسان 1946، وكأننا نحن من قاتلنا المحتل الفرنسي وانتصرنا.. وها نحن نحتفل.

– بدأت سورية عهد الجلاء كدولة ديمقراطية برلمانية استمرت واستقرت رغم ما شهدته من اضطرابات ما بعد جلاء المحتل الفرنسي، وبعضها كان بتحريض خارجي، لكن إرادة السوريين وتلاحمهم وقوة انتمائهم كانت تنتصر في كل مرة.. وفي كل عام كان عيد الجلاء المناسبة الأهم لشحذ الهمم ومواصلة مسيرة التطور والبناء وتعزيز أركان الدولة السورية المستقلة.. وهذا ما كان، وفي كل عيد جلاء كان السوريون يجمعون معاً حصاد عام مضى، متطلعين إلى عام جديد أفضل.

هكذا كنا.. وكان فرحنا واحداً، لم نكن نسأل عن انتماءاتنا، لم نكن نجادل ونحكم ونتشدد فيمن يحق له الاحتفال وفيمن لا يحق له، لم تكن تعنينا الانتماءات، نشأنا في سورية وتربينا من دون أن يهتم الواحد منا بانتماء الآخر، كان من المعيب أن نسأل أحداً عن دينه أو طائفته أو مذهبه، أو أن تكون لنا أحاديث طائفية مذهبية.. بالنسبة لنا كان شريكنا في الاحتفال سورياً وحسب، وهذا يكفي، وهذا ما يهم.

الجلاء صنعه كل أبناء سورية على اختلاف انتماءاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، وحتى على اختلاف تياراتهم الفكرية والثقافية، وهذا كان امتيازاً آخر ليوم الجلاء.

على هذه النقاط الآنفة الذكر جرى التآمر، ولسنوات عديدة قبل بدء الأزمة في سورية.. وكان عيد الجلاء إحدى القضايا التي تم العمل عليها وتحديداً لناحية تقزيمها وطنياً واجتماعياً وإنسانياً، عبر ربطها «بحزب ونظام».. كان الضخ الإعلامي الفتنوي هائلاً، مترافقاً مع ضخ إرهابي بشري من معظم أنحاء العالم.. أرادوا دفن يوم الجلاء، ومسحه من تاريخ السوريين، من احتفالاتهم الجامعة، من ذاكرتهم الوطنية.. أرادوا أن تولد الأجيال المقبلة من السوريين بلا تاريخ، بلا ذاكرة، إلا من ذاكرة الحرب والدمار.. ومن طائفية بغيضة تحدد انتماءاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم.

قد يكون حلف العدوان نجح في السنين الأولى من الأزمة، أو هكذا هُيّئ له.. لقد كان حجم العدوان والتآمر كبيراً صادماً عجز السوريون للوهلة الأولى عن استيعابه وأربكهم في المرحلة الأولى عن سرعة الرد، فكانت التداعيات صادمة بدورها.. كانت المؤامرة هائلة بحجم ما كان عليه الاستقلال الوطني والإجماع الوطني والانتماء الوطني، لكن السوريين المتأصل فيهم الوطن أولاً وآخراً، استطاعوا الخروج من كلتا الصدمتين ليستعيدوا زمام الأمور، ولتبدأ مسيرة جمع الوطن وأبنائه، وهذه تبدأ من القضايا الوطنية الجامعة من المحطات التاريخية الوطنية المشرفة، من انتصارات كانتصار يوم الجلاء.

مفتاح الحل

73 عاماً مرت على جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سورية.. العالم تغير مرات عدة، تفككت دول واتحادات، سقطت قوى وصعدت أخرى، اندثرت تكتلات وتشكلت أخرى، وكانت الحروب والأزمات سمة أساسية في كل منها، بينما كان يُفترض أن يكون العالم أكثر سلاماً واستقراراً بعد الحرب العالمية الثانية، وما أنتجه تحالف المنتصرين من منظمات ومؤسسات وهيئات دولية في سبيل ذلك.. وما زال العالم يتغير وينقلب من حال إلى حال، وما زالت سمته الأساسية الحروب والأزمات، ولم تكن المنطقة والدول العربية فيها بمعزل عن كل ذلك، كان لها نصيب من كل حرب وكل أزمة.. وكانت سورية دائماً في الواجهة.. موقعها الجيوسياسي لم يكف عن وضعها دائماً في عين العواصف الشرق أوسطية.. هي مفتاح المنطقة ومفتاح السيطرة عليها.. منذ غزو العراق 2003 انقلب وجه المنطقة من دون أن يستقر، ولا يبدو أن استقراراً سيحدث في المدى المنظور.. عواصف ما يسمى (الربيع العربي) لا تزال مستمرةً، هزاته الارتدادية ما زالت تعصف وتدمر وتدمي وتُعمل تقطيعاً في أوصال المنطقة العربية دولاً وشعوباً.. وعليه يبدو من الصعب القول إن الكثير من الدول العربية في وارد تذكر تاريخ استقلالها، وتالياً الاحتفال به.. ولاسيما أن ذلك (الربيع) أعاد إنتاج احتلال جديد بوجوه مختلفة.. مع ذلك لا يصح طرح ذلك السؤال الذي يبرز بين حين وآخر عن الحاجة إلى «استقلال جديد».. هذا ليس سؤالاً دقيقاً، بل هو خاطئ تماماً، فما تعيشه الكثير من الدول العربية ليس احتلالاً بالوجه التقليدي للاحتلال الذي كان موجوداً في القرن الماضي، حتى تتم عملية نضال ومقاومة ضده لدحره وإخراجه.. «الاحتلال» الذي تعيشه هذه الدول، احتلال مُستحدث مُستقدم يتم التعاطي معه بصورة «المخلص» وتالياً مسألة النضال والاستقلال الجديد ليست في وارد أحد.

الاستثناء في النضال والاستقلال

لكن هذه الحال لا تنطبق على سورية، وكما كانت حالة متفردة في نضالها وفي استقلالها، هي كذلك في مواجهتها الحرب الإرهابية التي تتعرض لها. سورية لا تحتاج إلى استقلال ثان كما يدّعي البعض طلباً للفتنة والتحريض، سورية دولة قائمة مستقلة، وعندما تتغلب على الحرب وتتجاوزها فهذا نسميه انتصاراً، وسنحتفي به ونحتفل، كما نفعل في نيسان من كل عام عندما نحتفي بعيد الجلاء ونحتفل..

لا ننكر أن احتفالاتنا بعيد الجلاء منذ بدء الأزمة لا تخلو من الغصّة، لكنها في المقابل لا تخلو من التفاؤل.. والتفاؤل هو الجزء الأهم في معركة صمود السوريين، وكان الأكثر استهدافاً، ولا يزال.. تحالف المتآمرين والمعتدين لم يفهم يوماً ذلك السر الكامن وراء تفاؤل السوريين رغم شراسة الحرب الإرهابية التي يتعرضون لها.. سر البساطة والطيبة مع إيمان لا يتزعزع بأن «إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر».. في أي يوم من أيام الأزمة لم يشهد السوريون ضعفاً أو تهاوناً من دولتهم، رغم الأزمات المتعددة والكبيرة التي أفرزتها هذه الحرب، ودفعت الدولة السورية في بعض الأوقات للتأخر أو لاستمهال الحلول أو لأخذ وقت وجهد أكبر في سبيل حلها.. قوة الدولة السورية ومواقفها واستمرارها متماسكة تواجه وتتحدى وتتصدى عززت من حالة التفاؤل لدى السوريين، وقوتهم في معركة الصمود والصبر.. ربما لم يشهد شعب في هذا العالم ما شهده السوريون على مدى السنوات الثماني الماضية من فظائع ومآسي بسبب الحرب الإرهابية على بلدهم، أي واحدة من هذه الفظائع والمآسي كانت قادرة على دفعه إلى حافة اليأس والانهيار، لكن هذا لم يحدث.. قارع السوريون أعتى هجمة إرهابية واستطاعوا احتواءها لتتحول اليوم إلى مراحلها الأخيرة، بانتظار النصر النهائي.. يراه الأعداء بعيداً ونراه قريباً.. ومن كان لديه تفاؤل السوريين وإيمانهم بالنصر.. لا غالب له.

سورية عزيزة منيعة

غداً الأربعاء 17 نيسان 2019 تحل الذكرى الـ 73 لعيد الجلاء، ولن يكون إلا عيداً للسوريين، يشحذ الهمم ويعمق الصمود، فمن قهر المستعمر العثماني ثم الفرنسي، وأنجز الاستقلال وبنى دولة قوية الأركان عزيزة منيعة.. قادر على تحقيق الانتصار مهما بلغت المؤامرة، ومهما امتد العدوان وتعددت أطرافه.

المصدر : تشرين - مها سلطان

اضافة تعليق